
تقرير بحثي مفصّل كتبة فريق التحرير بموقع ريبسولوجي (نروي قصص الأعمال)
تأسست الشركة المتحدة للصيادلة في سبعينيات القرن الماضي على يد الدكتور حسام عمر، وظلّت لعقود قلعةً رائدة في مجال توزيع الأدوية في مصر. في أكتوبر 2020، توفي المؤسس الدكتور حسام عمر بعد مسيرة طويلة في قيادة الشركة
فانتقلت الإدارة إلى أبنائه أحمد وأيمن حسام عمر. خلال الفترة التي تلت غياب المؤسس، بدأت بوادر اضطراب إداري ومالي تظهر في الشركة. ورغم محاولة الإدارة الجديدة الحفاظ على تماسك العمل، واجهت الشركة تحديات متصاعدة في سوق يعاني من تقلبات اقتصادية وضغوط تنافسية شديدة.
بنهاية عام 2021 وبداية 2022، كانت سوق الدواء المصرية تمر بتحولات كبيرة، منها ظهور سلاسل صيدليات ضخمة والتقلبات الحادة في سعر صرف الجنيه. وجدت المتحدة للصيادلة نفسها أمام مشاكل سيولة بسبب تأخر تحصيل مستحقاتها لدى بعض العملاء الكبار. وكشف تقرير صحفي في منتصف 2022 عن أزمة بدأت تتفاقم داخل الشركة: فعجزت المتحدة للصيادلة عن سداد شيكات مستحقة لمصانع الأدوية لمدة ثلاثة أشهر
أحد مصنّعي الأدوية أفاد بأنه تلقى شيكًا مرتجعًا من المتحدة بقيمة 430 مليون جنيه في تلك الفترة
هذه المؤشرات دقّت ناقوس الخطر مبكرًا، موحية بأن الشركة تواجه مشكلات مالية جدّية حتى قبل مرور عامين على رحيل مؤسسها
ومن العوامل التي سرعت تدهور المتحدة تورطها في أزمة سلسلة صيدليات كبرى. فخلال 2021، أبرمت الإدارة الجديدة صفقة لإدارة نحو 300 فرع من سلسلة صيدليات 19011 الشهيرة مقابل ديون مستحقة على السلسلة
كانت 19011 غارقة في الديون وعاجزة عن السداد، ما دفع المتحدة للتدخل أملًا في إنقاذ مستحقاتها. لكن الصفقة لم تكتمل بعد اكتشاف مشكلات كبيرة؛ إذ تبين أن معظم فروع 19011 مستأجرة وليست مملوكة، وتراكمت عليها مديونيات تقارب 7 مليارات جنيه
أدى هذا التعثر إلى خسائر هائلة للمتحدة، فبدلًا من استعادة ديونها، وجدت نفسها تتحمل عبئًا إضافيًا وانكماشًا في السيولة ويشير بعض خبراء القطاع إلى أن غياب حكمة المؤسس الراحل ربما جعل الإدارة الجديدة تتوسع في منح الائتمان بشكل غير محسوب سعياً للهيمنة على السوق، الأمر الذي انقلب ضد الشركة في النهاية
التدهور المالي والإداري: تسلسل زمني
مع المضي قدمًا في 2023، تفاقمت مشاكل المتحدة للصيادلة وأصبحت أكثر ظهورًا للعلن. بحلول منتصف 2023 كانت الشركة قد بلغت مرحلة حرجة في الوفاء بالتزاماتها. في نوفمبر 2023 توقفت الشركة فعليًا عن سداد مدفوعاتها لعدد من الشركات الدوائية
في الشهور اللاحقة، بدأت تلك الشركات المتضررة بالتحرك القانوني؛ فبحلول أكتوبر 2024 تقدمت شركة أدوية تدعى الأندلس الطبية بدعوى قضائية لإشهار إفلاس المتحدة إثر شيكات مرتجعة بقيمة 97 مليون جنيه لم تسددها الشركة
شكلت هذه الخطوة شرارة الأزمة القانونية التي سرعان ما توسعت، إذ انضمت شركات أدوية أخرى إلى المطالبة بحقوقها. ومن بين هذه الشركات أسماء بارزة مثل البرج للصناعات الدوائية (بمطالبة 74 مليون جنيه) وأورجانو للصناعات الدوائية وماجيستيك بايوفارما وعملاقين في تصنيع الدواء هما إيبيكو (EIPICO) وسيرفييه مصر، بالإضافة إلى شركة راميدا
تكاثرت الدعاوى والمطالبات خلال أواخر 2024، مما ضاعف حجم الديون المطالب بها بوتيرة متسارعة، وأصبح الوضع المالي للشركة أكثر تأزمًا
في خضم ذلك، واجهت الإدارة نفسها متاعب قانونية شخصية. ففي سبتمبر 2024 تم القبض على د. أيمن حسام عمر – رئيس مجلس الإدارة ونجل المؤسس – على خلفية أحكام غيابية تتعلق بشيكات دون رصيد
ورغم الإفراج عنه لاحقًا بعد تقديم معارضة قانونية، عكست الواقعة مدى التشابك بين مصير الشركة والمسؤولين عنها في ظل الأزمة. ومع تزايد الضغوط، حاولت الشركة كسب الوقت بطلبات تسوية ودّية مع الدائنين. إلا أن محكمة القاهرة الاقتصادية رفضت في يناير 2024 طلبات الصلح المقدمة من المتحدة، في إحدى القضايا التي بلغت مديونيتها 45 مليون جنيه ما أوحى بأن المسار القضائي ماضٍ في طريقه دون تسويات سهلة
مع دخول العام 2025، كانت الشركة المتحدة للصيادلة قد وصلت إلى حافة الهاوية. في مطلع مارس 2025 احتشد مئات من عمال الشركة في وقفة احتجاجية أمام المقر الرئيسي مطالبين بصرف رواتبهم المتأخرة لعدة أشهر ـ أصبح تأخر الأجور مؤشرًا واضحًا على شلل السيولة في الشركة، خاصة مع حلول شهر رمضان بينما العمال لم يتقاضوا أجورهم منذ فترة
تزامنت هذه التطورات مع استمرار المعارك القضائية: ففي مارس 2025 قررت المحكمة الاقتصادية فرض إجراءات احترازية صارمة، منها منع المتحدة من التصرف في أصولها إلا في نطاق أنشطتها المعتادة، ووضعها تحت إشراف لجنة من خبراء إعادة الهيكلة كما تم إخطار هيئة الدواء المصرية وهيئة البورصة لضمان الشفافية وحماية حقوق الدائنين
وبحلول أوائل أبريل 2025، انضمت بنوك كبيرة إلى قائمة المطالبين، حيث دخل بنك الإمارات دبي الوطني على خط الأزمة إلى جانب بنكي كريدي أجريكول وCIB (التجاري الدولي)، مما رفع إجمالي الديون المطالب بها إلى عدة مليارات من الجنيهات
وفي 6 أبريل 2025، بعد جلسات مكثفة، قررت محكمة القاهرة الاقتصادية حجز قضية إشهار الإفلاس للنطق بالحكم في جلسة 13 أبريل 2025
وهكذا وجدت المتحدة للصيادلة نفسها أمام الفصل الأخير من مسيرتها، بانتظار حكم قضائي قد يعلن نهاية شركة هيمنت يومًا ما على جزء كبير من سوق الدواء المصري
الوضع المالي للشركة وأعباء الديون
كشفت الأزمة عن فجوة مالية هائلة في ميزانية الشركة المتحدة للصيادلة. خلال مسار التحقيقات والدعاوى، تضاربت التقديرات حول حجم الديون الفعلي. فمن جهة، حاولت الإدارة التقليل من حجم المديونية معلنة أنها حوالي 2.5 مليار جنيه فقط. بالفعل، صرّح د. أيمن حسام عمر في سبتمبر 2024 عن التوصل لتسوية مديونية مع البنوك بقيمة تقارب 2.5 مليار جنيه
attributing the financial crisis to market fluctuations مثل تغيرات سعر الصرف وتأخر بعض الموردين في السداد
ولكن هذه الصورة تفاؤلية لم تصمد أمام الواقع، إذ بيّنت مستندات المحكمة وما كشفه الدائنون أن الرقم الحقيقي أكبر بكثير أحد الدعاوى في مجلس الدولة ذكر أن المتحدة للصيادلة تواجه مديونيات تتجاوز 8 مليارات جنيه مستحقة لعدة شركات وبنوك
هذا الفرق الشاسع بين الرقمين يعود إلى أن إعلان الإدارة ركز على ديون البنوك وحدها، بينما تضم قائمة الديون أيضًا مستحقات عشرات مورّدي الأدوية وشركات التصنيع الدوائي، وكذلك التزامات تجارية أخرى تراكمت عبر السنوات الأخيرة
أما على جانب الأصول، فتمتلك الشركة ممتلكات كبيرة استخدمتها لضمان القروض والتسهيلات. وقد قدّر د. أيمن حسام عمر قيمة الأصول العينية للمجموعة بحوالي 9 مليارات جنيه وفق تقييم شركات مستقلة
تشمل هذه الأصول مقرات إدارية ومخازن وتجاريًا عقارية موزعة في أنحاء البلاد، كانت بمثابة الضمان أمام البنوك. ومع ذلك، ورغم ضخامة هذه الأصول، لم تفلح في منع التعثر المالي؛ إذ إن بيع الأصول لتسديد الديون تعترضه عقبات قانونية وتنظيمية. خلال جلسات التقاضي طالبت بعض الدعاوى بتجميد وإلغاء أي تصرف في أصول الشركة دون موافقة الجهات المختصة للحيلولة دون قيام الملاك بمحاولة بيع ممتلكات الشركة هربًا من سداد المستحقات
السيولة النقدية لدى المتحدة تدهورت بشكل خطير منذ 2022. فالشركة التي حققت يومًا مبيعات شهرية تقارب 3.2 مليار جنيه
وجدت نفسها غير قادرة على تدبير بضعة ملايين لدفع الرواتب أو سداد شيكات الموردين في موعدها. يفسر خبراء هذا التدهور السريع بعوامل عدة منها: تراكم المخزون دون تصريف بسبب تباطؤ السداد من العملاء، وارتفاع تكلفة التمويل نتيجة رفع أسعار الفائدة، بالإضافة إلى انهيار قيمة الجنيه الذي أدى لارتفاع تكاليف شراء الأدوية (وخاصة المستوردة) مما أضر بهوامش الربح. وقد أشار أيمن حسام عمر إلى تحديات سعر الصرف وارتفاع الفائدة وأثرهما على ميزانية الشركة
ومن المفارقات أن الشركة نفسها كانت لها أموال مستحقة لدى الغير؛ فبحسب تصريحات الإدارة، هناك سلاسل صيدليات حصلت من المتحدة على أدوية بقيمة 5.5 مليار جنيه ولم تسددها في المواعيد
هذا يعني أن الأزمة كانت حلقات متصلة: المتحدة مدينة لمورديها ومموليها، ومدينة لها أيضًا سلاسل صيدليات وتجار لم يتمكنوا من الدفع، مما خلق حلقة مفرغة من العجز المالي
في ذروة الأزمة، تدخلت البنوك الدائنة في محاولة لإعادة الهيكلة. بدأت مفاوضات مصرفية في 2024 لتسوية ديون تقترب من 8 مليارات جنيه مقابل نقل ملكية بعض الأصول العينية (مثل المخازن والفروع وربما صيدليات تابعة) لصالح البنوك
تضمن مقترح التسوية أيضًا إعادة تشغيل الشركة عبر منحها تسهيلات ائتمانية جديدة تمكنها من استئناف نشاطها وسداد التزاماتها تدريجيًا
ورغم بوادر التفاؤل التي صاحبت هذه المفاوضات – لا سيما وأن أكبر ثلاثة بنوك حكومية وتجارية (الأهلي المصري، ومصر، والتجاري الدولي) كانت منخرطة فيها
إلا أن الوقت لم يسعف الشركة. فقد تعطلت تلك الجهود أمام سيل الدعاوى القضائية من كل حدب وصوب، مما جعل خيار إعادة الهيكلة الطوعية صعبًا دون حماية قانونية من الدائنين الفرادى. في النهاية، اضطرت الإدارة إلى الرضوخ للمسار القانوني، وتقدمت في أبريل 2025 بطلب رسمي للمحكمة للسماح بإعادة هيكلة تحت إشراف القضاء كفرصة أخيرة قبل الحكم بإشهار الإفلاس لكن هذه المحاولة جاءت متأخرة جدًا، حيث كانت الأزمة قد وصلت لنقطة اللاعودة
تأثير الانهيار على سوق الدواء المصري
أثار انهيار المتحدة للصيادلة مخاوف واسعة في سوق الدواء المصري نظرًا لمكانة الشركة المحورية في سلاسل الإمداد الدوائية. فعندما يتعثر موزع بهذا الحجم، فمن الطبيعي توقع اضطرابات في توفير الأدوية عبر الصيدليات والمستشفيات بالفعل، خلال ذروة الأزمة أواخر 2024 ومطلع 2025، واجهت بعض الصيدليات صعوبة في تأمين أصناف معينة كانت المتحدة هي الموزع الرئيسي لها. شركات إنتاج الأدوية التي كانت تعتمد بشكل كبير على المتحدة في توزيع منتجاتها شعرت بوطأة الأزمة، حيث تراكمت مخزوناتها أو اضطرت لإعادة ترتيب اتفاقيات التوزيع سريعًا مع موزعين آخرين. وذكر مراقبون أن هيئة الدواء المصرية تابعت الموقف عن كثب تحسبًا لحدوث نقص في الأدوية الحيوية، حتى أنها أعدّت خطط طوارئ بالتعاون مع شركات التوزيع الأخرى لضمان استمرار تدفق الأدوية للسوق
على الرغم من القلق الأولي، تمكن السوق من امتصاص الصدمة تدريجيًا. فهناك موزعون كبار آخرون تحركوا لسد الفجوة وتلبية احتياجات الصيدليات التي كانت تعتمد على المتحدة. وشهدنا خلال الأشهر الأولى من 2025 إعادة توزيع لحصص السوق؛ حيث عززت شركات التوزيع المنافسة نطاق تغطيتها الجغرافية وزيادة طاقتها التشغيلية لتعويض خروج المتحدة من المشهد. كما اضطرت بعض شركات الأدوية الكبرى إلى تنويع قنوات التوزيع وعدم الاعتماد على موزع واحد، تفاديًا لتكرار مثل هذا الخطر مستقبلاً. وقد تطلّب هذا الوضع انتقالًا سريعًا لعقود التوزيع إلى شركات أخرى وإعادة هيكلة عقود التوريد، مما كان تحديًا لوجستيًا في البداية لكنه أصبح واقعًا جديدًا للسوق
بالنسبة للصيدليات، خاصة الصغيرة والمستقلة منها، فقد كانت الأكثر تأثرًا على المدى القصير. هذه الصيدليات اعتادت سهولة الحصول على تشكيلة واسعة من الدواء عبر طلبية واحدة من المتحدة للصيادلة نظرًا لضخامة قائمة المنتجات التي توفرها
مع تعثر الشركة، اضطرت الصيدليات للتعامل مع موزعين متعدّدين لتأمين نفس الأصناف، مما زاد الجهد والتكلفة اللوجستية عليها مؤقتًا. بعض الصيدليات أبلغت عن تأخر في استلام الطلبات خلال فترة إعادة التنظيم تلك. ورغم ذلك، سرعان ما تأقلمت أغلب الصيدليات مع الوضع الجديد عبر التعامل مع موردين بديلين، كما استفادت من عروض ترويجية قدّمها المنافسون لجذب عملاء المتحدة السابقين
على صعيد شركات الإنتاج الدوائي المحلية، فإن العديد منها كان دائنًا كبيرًا للمجموعة المنهارة. وقد اضطرت هذه الشركات إلى تجنيب مخصصات مالية لمقابلة خسائر الديون المعدومة المتوقعة من توقف المتحدة عن السداد. بعض هذه الشركات – خاصة الصغيرة منها – عانت من تعثر مالي نتيجة فقدان مبالغ كبيرة كانت في ذمة المتحدة، مما أثّر على قدرتها على استيراد المواد الخام أو تصنيع دفعات جديدة من الأدوية. أما الشركات الكبرى المدرجة في البورصة فقد أفصحت للمساهمين عن تأثيرات محدودة، مؤكدة أنها اتخذت خطوات قانونية لتحصيل مستحقاتها عبر المحكمة الاقتصادية. وإجمالًا، يُنظر إلى سقوط المتحدة كدرس قاسٍ دفع المصنعين إلى إعادة تقييم سياسات البيع بالآجل والحد الائتماني الممنوح للموزعين، حتى أكثرهم ضخامة
وعن أسعار الدواء للمستهلك، لم يحصل انفلات في الأسعار نتيجة هذا الحدث، لأن تسعير الأدوية في مصر محدد حكوميًا ولا يتأثر مباشرة بهوية الموزع. لكن التخوف كان من نقص بعض الأدوية إن لم يتم تعويض غياب المتحدة سريعًا. لحسن الحظ، هذا النقص كان محدودًا وزمنيًا. ويرجع ذلك جزئيًا إلى تدخل الدولة عبر هيئة الدواء لضمان عدم انقطاع الأصناف الحرجة، وأيضًا إلى جاهزية الشركات المنافسة التي كثفت نشاطها لتغطية الطلب. في نهاية المطاف، تمكن سوق الدواء من إعادة التوازن خلال النصف الأول من 2025، رغم حالة الارتباك القصيرة التي وُصفت بأنها الأقرب إلى “زلزال” ضرب قطاع الدواء المصري. لقد أعادت هذه الأزمة التذكير بأهمية وجود هيكل توزيع متنوع وتنافسي لتفادي أي اضطراب مستقبلي يؤثر على الأمن الدوائي في البلاد.
المنافسون: المستفيدون والمتضررون
كان انهيار المتحدة للصيادلة بمثابة تغيير لقواعد اللعبة بالنسبة لشركات التوزيع المنافسة في مصر. فخروج لاعب بهذا الحجم فتح المجال لإعادة اقتسام كعكة السوق. أبرز المستفيدين كانت شركة ابن سينا فارما، ثاني أكبر موزع أدوية في البلاد سابقًا، والتي قفزت لتصبح الرقم واحد دون منازع. ابن سينا فارما، المدرجة في البورصة المصرية، أعلنت في أواخر 2024 أنها توسعت بحصة سوقية تصل إلى حوالي 30% من سوق توزيع الدواء
وهذا النمو السريع يُعزى بشكل مباشر إلى التقاط ابن سينا لعملاء ومبيعات المتحدة المنسحبة من السوق. فقد سارعت الشركة إلى توقيع عقود جديدة مع شركات الأدوية العالمية والمحلية التي كانت تعتمد على المتحدة، مؤكدة قدرتها على تلبية احتياجاتهم اللوجستية. وبالمثل، استفادت شركة فارما أوفرسيز (Pharma Overseas) وهي موزع كبير آخر، من الفرصة لتوسيع شبكتها خصوصًا في صعيد مصر والمناطق التي كانت المتحدة تهيمن عليها. شركات توزيع متوسطة الحجم مثل مالتي فارما ورامكو فارم وأميكو فارما وغيرها شهدت أيضًا ازديادًا في الطلب من الصيدليات والمستشفيات لتعويض الفراغ، ما أدى إلى نمو أعمالها بشكل لم يكن متوقعًا قبل سنوات
على الجانب الآخر، هناك شركات وجدت نفسها متضررة بشكل غير مباشر من انهيار المتحدة. الشركة المصرية لتجارة الأدوية (شركة حكومية) مثلاً اضطرت إلى تحمل عبء أكبر في توفير بعض الأصناف للمستشفيات الحكومية التي ربما تأثرت سلاسل توريدها. أيضًا بعض سلاسل الصيدليات الكبرى التي كانت تربطها شراكات خاصة مع المتحدة واجهت مرحلة انتقالية صعبة لإعادة تنظيم إمداداتها. على سبيل المثال، سلسلة صيدليات كير (Care) – وهي إحدى الكيانات التابعة لمجموعة حسام عمر نفسها – توقفت إمداداتها لفترة نتيجة تعثر العلاقة مع الشركة الأم
، قبل أن تضطر للبحث عن موردين آخرين. كذلك سلسلة صيدليات 19011 المنهارة أصلًا كانت من أكبر مديني المتحدة كما أوضحنا، فإفلاس المتحدة أكد خسارة 19011 لأي فرصة لإعادة الهيكلة عبرها، مما أنهى أي أمل في إحياء تلك السلسلة وأثّر سلبًا على الدائنين الآخرين المرتبطين بها
ومن زاوية المنافسة، استفادت بعض سلاسل الصيدليات الخاصة من غياب ذراع توزيع كانت المتحدة تمتلكه. فمجموعة حسام عمر كانت لديها شبكة صيدليات تابعة (مثل صيدليات جولد وكير وغيرها ضمن المجموعة) وكانت تنافس سلاسل أخرى كالعزبي وسيف. بانهيار المتحدة، خسرت تلك السلاسل التابعة دعم الموزع الشقيق القوي، ما منح منافسيها في سوق البيع بالتجزئة أفضلية نسبية. على سبيل المثال، صيدليات العزبي – إحدى أكبر السلاسل في البلاد – ربما تنفست الصعداء برفع عبء منافس مدعوم بموزع عملاق. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن العزبي نفسها واجهت مشكلات ديون مع موزعين آخرين خلال الفترة الماضية ما يعني أن المشهد التنافسي كان مضطربًا للجميع وليس فقط نتيجة سقوط المتحدة
في المجمل، أعاد خروج المتحدة رسم خريطة حصة السوق بين موزعي الدواء. الشركات الكبرى الخاصة اقتسمت الحصة الأكبر سريعًا، فيما وجدت الشركات الأصغر مجالاً للنمو في مناطق محددة أو في توزيع منتجات متخصصة. أما شركات الإنتاج الدوائي المنافسة لبعضها البعض، فقد توحدت مصلحتها في ضمان تعددية الموزعين حتى لا تتكرر أزمة الاعتماد على موزع واحد ويمكن القول إن المستفيد الأكبر كان Ibnsina Pharma التي عززت ريادتها واغتنمت الفرصة للتوسع، بينما كان الخاسر الأكبر – إلى جانب مجموعة حسام عمر ذاتها – هم المورّدون الذين لم يستوفوا حقوقهم كاملة، واضطروا لتحمل خسائر أو انتظار سنوات في المحاكم. وقد أصبحت قصة المتحدة عبرة في الأوساط الصناعية: فمن جهة أبرزت مخاطر الاحتكار المفرط في قطاع حساس كالتوزيع الدوائي، ومن جهة أخرى أظهرت كيف أن غياب لاعب كبير قد يكون نقمة للبعض ونعمة لآخرين
مكانة الشركة قبل الانهيار
للتذكير بحجم الشركة المتحدة للصيادلة قبل موجة التدهور، يكفي استعراض بعض الأرقام والحقائق عن هيمنتها السابقة. حتى عام 2020، كانت المتحدة تعتبر أكبر موزع أدوية في مصر بحصة سوقية تدور حول 30% من سوق توزيع الدواء المحلي
هذا يعني أن قرابة ثلث الأدوية المباعة في مصر كانت تمر عبر قنوات توزيع المتحدة للصيادلة. الشبكة اللوجستية للشركة كانت هائلة بكل المقاييس؛ فقد امتدت فروعها ومستودعاتها إلى مختلف المحافظات، مع أكثر من 120 مركز توزيع تغطي الجمهورية
ومن خلال تلك الشبكة، كانت الشركة تخدم حوالي 50 ألف صيدلية في شتى أنحاء مصر
إلى جانب مستشفيات حكومية وخاصة تجاوز عددها 1600 منشأة صحية
تنوعت قائمة عملاء المتحدة لتشمل أيضًا تجار جملة وشركات توزيع فرعية (بلغ عددهم نحو 1100 عميل جملة) فضلاً عن تعاونها مع سلاسل المتاجر الكبرى لتوزيع المستلزمات والمستهلكات الطبية
على صعيد المبيعات والأرقام المالية، حققت مجموعة المتحدة للصيادلة (ضمن مجموعة HO القابضة) نموًا مطردًا عبر السنين. وتشير بيانات الشركة إلى أن حجم مبيعاتها السنوية وصل إلى نحو 40 مليار جنيه مصري في عام 2022
وهو رقم ضخم يضعها ضمن أكبر الكيانات التجارية في مصر على الإطلاق. هذه المبيعات تُرجم شهريًا إلى حوالي 3 مليارات جنيه من الأدوية المتدفقة عبر مستودعاتها إلى السوق
كما وفرت الشركة قائمة هائلة من الأصناف الدوائية بلغت نحو 20 ألف منتج مختلف بين دواء ومستهلكات ومستلزمات طبية
مما جعلها شريكًا لا غنى عنه لمئات من شركات الأدوية المحلية والعالمية (حيث وصل عدد الموردين المتعاملين معها إلى أكثر من 750 مورّد
) ولعبت المتحدة دورًا لوجستيًا حيويًا في إيصال الأدوية المستوردة واللقاحات ومنتجات الرعاية الصحية إلى كل ركن من أركان البلاد بكفاءة عالية
أما القوى العاملة في الشركة فكانت ضخمة ومُدربة. فقد تجاوز عدد موظفي المتحدة للصيادلة وشركاتها الشقيقة 16 ألف موظف وعامل
بينهم فرق مبيعات ميدانية قاربت 2500 مندوب يزورون الصيدليات والمستشفيات يوميًا
تمتعت الشركة بثقافة مؤسسية قوية أرساها المؤسس الراحل، مع بنية إدارية تشمل طبقات من المديرين والخبراء في مجالات الدواء واللوجستيات وتقنية المعلومات. وحازت على ثقة كبار المصنّعين الذين ائتمنوها على توزيع أدويتهم الحساسة التي تحتاج لسلسلة تبريد خاصة أو متابعة تنظيمية دقيقة
قبل بدء تعثرها، كانت سمعة المتحدة للصيادلة في السوق أنها “شريك النجاح” لشركات الأدوية والصيدليات. فهي وفرت حلولاً متكاملة للتوزيع بما في ذلك نظام طلبات إلكتروني متقدم وخدمات دعم فني للصيدليات في إدارة مخزونها. وامتدت طموحات الشركة إلى قطاعات موازية، فأسست شركات تابعة مثل المتحدة للتجارة والتوزيع (UCTD) المتخصصة في السلع الصيدلانية الاستهلاكية، وشركة الوادي للنيل للخدمات اللوجستية الصحية، وحتى ventures خارج القطاع الطبي كالفنادق والمنتجعات ضمن مجموعة HO
. هذا التنوع عكَس الثقة الكبيرة بقدرات المجموعة وإدارتها
باختصار، قبل التدهور كانت المتحدة للصيادلة إمبراطورية في عالم الدواء المصري. استحوذت على حصص سوق ضخمة، وبنت شبكة توزيع لا تضاهى، ووظفت جيشًا من الكفاءات، مما جعل سقوطها المدوي في 2025 حدثًا استثنائيًا لم تشهد الصناعة مثيلاً له منذ عقود. إنها قصة صعود وازدهار أعقبها هبوط حاد، تجمع بين الدروس الإدارية والمالية لعالم الأعمال وأهمية الحوكمة والتخطيط في استدامة النجاح.
المصادر
-
بوابة الحرية والعدالة – تقرير حول احتجاجات عمال الشركة وحجم أزمتها (2 مارس 2025)
-
موقع فيتو الإخباري – تفاصيل القضية بالمحكمة الاقتصادية وتحديد جلسة الحكم (6 أبريل 2025).
-
موقع مصر الآن – تغطية تصاعد الأزمة وتأجيل دعوى الإفلاس والتدخلات المصرفية (5 أبريل 2025).
-
صحيفة المال نقلاً عن Economy Plus – مفاوضات البنوك لتسوية مديونية 8 مليارات مقابل أصول (8 سبتمبر 2024)
-
موقع Infinity Economy – تصريح أيمن حسام عمر بشأن تسوية مع البنوك بقيمة 2.5 مليار وأصول 9 مليارات (14 سبتمبر 2024).
-
جريدة الوطن – زلزال في سوق الدواء: تحقيق صحفي عن أزمات كبرى السلاسل (11 يونيو 2022)
-
بوابة فيتو (أرشيف 2017) – حيتان الدواء: سرد لأكبر شركات التوزيع وهيمنة المتحدة وابن سينا وغيرهما
-
بوابة الأهرام – نبذة عن الدكتور حسام عمر ودوره الريادي في صناعة وتوزيع الدواء (حوارات 2019)
.