هيئة الدواء المصرية

تاريخ هيئة الدواء المصرية وتطورها

تحليلي سردي عن تاريخ هيئة الدواء المصرية، من الجذور وحتى الهيئة الحالية

تاريخ هيئة الدواء المصرية وتطورها

تمَّ تحرير هذا المقال بواسطة فريق تحرير ريبسولوجي ليكون مرجعًا لتاريخ هيئة الدواء المصرية ونشأتها وتطورها على مر العقود.

الجذور التاريخية للرقابة الدوائية في مصر

تعود بدايات الرقابة الدوائية في مصر إلى عقود مبكرة من القرن العشرين. فقد أُنشئت وزارة الصحة العمومية عام 1936 في أواخر عهد الملك فؤاد الأول، لتتولى تنظيم شؤون الصحة العامة في البلاد​

. ومع تأسيس وزارة الصحة، ظهر الاهتمام بضبط سوق الدواء ضمن مهامها. وفي عام 1955 صدر القانون رقم 127 لسنة 1955 بشأن مزاولة مهنة الصيدلة، والذي وضع قواعد صارمة لتنظيم عمل الصيدليات وتداول الأدوية. عزز هذا القانون دور وزارة الصحة في الإشراف على المستحضرات الصيدلية، من حيث تسجيل الأدوية الجديدة ومراقبة جودتها والتحكم بأسعارها وتوزيعها، لحماية صحة المواطنين​.

ضمن هيكل وزارة الصحة، برزت على مدار السنوات الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة كمؤسسة محورية تتولى مهام الرقابة الدوائية. تمثل هذه الإدارة الذراع التنفيذية للقوانين المنظمة للدواء، فكانت مسؤولة عن تسجيل المستحضرات الصيدلية الجديدة وتسعيرها وضبط إمداداتها في السوق المصري​

. كما أشرفت الإدارة على ترخيص الصيدليات ومتابعة التزامها بالمعايير المهنية، إلى جانب رقابة المخزون الدوائي لمنع حدوث نقص في الأصناف الأساسية. وتمركز مقر الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة في مبنى وزارة الصحة بالقاهرة، حيث ظلت تابعة للوزارة تنظيميًا وإداريًا منذ إنشائها. وقد ظلت هذه الإدارة لسنوات طويلة الجهة الرئيسية المنوط بها ملف الدواء في مصر، تعمل تحت مظلة وزير الصحة وضمن هيكل الحكومة التقليدي.

تطور هيئات الرقابة الدوائية قبل إنشاء الهيئة

مع توسع سوق الدواء المصري وازدهار الصناعة الدوائية المحلية في النصف الثاني من القرن العشرين، استشعرت الدولة الحاجة إلى كيانات متخصصة تدعم الإدارة المركزية وتُعنى بالجوانب الفنية والرقابية الدقيقة. في عام 1976 تأسست الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية بموجب قرار جمهوري، لتكون مركزًا بحثيًا ورقابيًا لفحص جودة الأدوية وضمان مطابقتها للمواصفات قبل وبعد تداولها​

. احتوت هذه الهيئة على معامل متقدمة وخبراء في تحليل العقاقير، ولعبت دورًا حيويًا في اختبار المستحضرات المستورد والمصنّعة محليًا والتأكد من فعاليتها وأمانها.

وفي عام 1995 أُنشئت الهيئة القومية للبحوث والرقابة على المستحضرات الحيوية واللقاحات بقرار جمهوري آخر​

. جاءت هذه الهيئة لتتخصص في رقابة الأمصال واللقاحات والمنتجات الحيوية، نظرًا لحساسية تلك المستحضرات وضرورة إخضاعها لاختبارات دقيقة تضمن سلامتها قبل استخدامها على نطاق واسع. ومع وجود هاتين الهيئتين، أصبح المشهد الرقابي للدواء في مصر مقسمًا بين عدة جهات: الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة تضع السياسات وتشرف على التسجيل والتوزيع، والهيئات القومية تختبر وتراقب الجودة مخبريًا. ورغم هذا التطور، بقي قطاع الرقابة الدوائية مشتتًا بين وزارة الصحة وهيئاتها المختلفة، مما أدى أحيانًا إلى بطء في الإجراءات أو تداخل الاختصاصات. كما بدأت تحديات جديدة بالظهور في العقدين الأخيرين، مثل ظهور أدوية مغشوشة في السوق وارتفاع وتيرة الممارسات الاحتكارية لبعض الشركات، إلى جانب الحاجة لمواكبة تسارع تطوير الأدوية عالمياً​

. كل ذلك حفّز التفكير في إعادة هيكلة شاملة لمنظومة الرقابة على الدواء في مصر

ميلاد هيئة الدواء المصرية (2019)

بحلول أواخر العقد الثاني من الألفية الجديدة، أخذت مصر خطوات جريئة لمواكبة النماذج العالمية المتقدمة في تنظيم قطاع الأدوية. culminated هذه الجهود في صدور قانون رقم 151 لسنة 2019 الذي أقره مجلس النواب المصري في يوليو 2019، والذي قضى بإنشاء هيئة الدواء المصرية كهيئة مستقلة عليا تُعنى بكافة شئون الدواء​

. تم التصديق على القانون في أغسطس 2019، ونُشرت تفاصيله في الجريدة الرسمية، على أن يبدأ سريان أحكامه بعد ستة أشهر من صدوره. وبالفعل، مع مطلع عام 2020 تم تفعيل عمل هيئة الدواء المصرية رسميًا، إيذانًا بمرحلة جديدة في حوكمة قطاع الأدوية.

تميز تأسيس هيئة الدواء المصرية بعدة جوانب فارقة. فهي هيئة حكومية ذات شخصية اعتبارية تتبع مباشرةً لرئيس مجلس الوزراء وليس لوزارة الصحة​

، مما يمنحها قدرًا أكبر من الاستقلال الإداري والمرونة في اتخاذ القرارات التنظيمية بعيدًا عن الهيكل التقليدي للوزارة. وقد تم اختيار الدقي بمحافظة الجيزة مقرًا رئيسيًا للهيئة، حيث احتضنت مباني ومعامل الهيئة الجديدة كوادر وخبرات الهيئات السابقة تحت سقف واحد. وبموجب قانون إنشائها، حَلَّت هيئة الدواء المصرية محل كلٍ من الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة والهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية والهيئة القومية للمستحضرات الحيوية واللقاحات وغيرها من الجهات ذات الصلة​

. وبذلك انتقل إلى هيئة الدواء الجديدة جميع العاملين والأصول والمعدات التابعة لتلك الكيانات المدمجة، لضمان استمرار العمل الرقابي دون انقطاع. كما نص القانون على أن يتولى رئيس هيئة الدواء المصرية صلاحيات وزير الصحة السابقة فيما يخص تنظيم مهنة الصيدلة والدواء، تطبيقًا لأحكام قانون مزاولة الصيدلة القديم​

. وهذا يعني أن الهيئة الجديدة أصبحت المنوط بها إصدار القرارات التنظيمية والتراخيص في مجال الصيدلة بدلاً من الوزارة، مما ركّز ملف الدواء تحت جهة واحدة موحَّدة.

مثّل يوم 26 فبراير 2020 تاريخًا مهمًا في هذه النقلة النوعية، إذ انفصل قطاع الصيدلة لأول مرة عن وزارة الصحة منذ تأسيسها عام 1936 ليصبح تابعًا لهيئة الدواء المصرية​

. وتمت إزالة اللافتات القديمة لمقر الإدارة المركزية للصيدلة لترفع مكانها لافتة هيئة الدواء المصرية إيذانًا ببدء العهد الجديد. وقد عيّن الرئيس المصري في أوائل 2020 الدكتور تامر عصام كأول رئيس لهيئة الدواء المصرية بدرجة وزير، تأكيدًا على أهمية الدور المنوط بها​

. وهكذا وُلِدت هيئة الدواء المصرية استجابةً لحاجة طال انتظارها، متمثلة في كيان حديث يوحّد جهود الرقابة الدوائية على غرار هيئات تنظيم الدواء في دول العالم المتقدم​.

دور الهيئة وصلاحياتها في التنظيم الدوائي

أوكل قانون إنشاء هيئة الدواء المصرية للهيئة دورًا شاملًا في الإشراف على كل ما يخص المستحضرات والمستلزمات الطبية في مصر. أصبحت الهيئة المرجع الرئيسي لتنفيذ قانون مزاولة مهنة الصيدلة وجميع التشريعات ذات الصلة، متسلحةً بكافة الصلاحيات القانونية اللازمة لضبط هذا القطاع الحيوي​

. وتشمل مهام الهيئة الجديدة وضع السياسات والقواعد المنظمة لإنتاج وتداول الأدوية والمستلزمات الطبية وتحديثها باستمرار، بما يكفل تحقيق جودة وفعالية وأمان جميع المنتجات الدوائية المتداولة في السوق​

. كما تقوم الهيئة بتقييم ملفات تسجيل الأدوية الجديدة (البشرية والبيطرية على حد سواء) وإصدار تراخيص تداولها بعد التحقق العلمي من مأمونيتها وفعاليتها.

ضمن صلاحياتها أيضًا التفتيش والرقابة المستمرة على مصانع وشركات الأدوية للتأكد من التزامها بمعايير التصنيع الجيد والمعايير الدولية المعمول بها. وتتولى الهيئة مراقبة سلسلة الإمداد الدوائي لضمان توفر الأدوية الأساسية ومنع أي نقص أو احتكار يؤثر على صحة المواطنين. وفي الوقت نفسه، تضطلع الهيئة بدور توعوي وتثقيفي هام يتمثل في نشر الوعي المجتمعي بالاستخدام الرشيد والآمن للدواء​

. فهي تصدر نشرات دورية للصيادلة والأطباء والجمهور حول المستجدات الدوائية والتحذيرات اللازمة بشأن أي مخاطر محتملة مرتبطة بالأدوية. ومن خلال مركز اليقظة الدوائية التابع لها، يتم رصد الآثار الجانبية للأدوية بعد تسويقها والتحرك السريع عند رصد أي مشكلات تتعلق بسلامة الدواء في السوق.

على الصعيد التنظيمي، تقوم هيئة الدواء باقتراح مشروعات القوانين واللوائح الجديدة وتقديم المشورة المتخصصة عند تحديث التشريعات الصحية​

، لضمان مواكبة الإطار القانوني للتطورات العلمية والصناعية المتسارعة. كما تمثل مصر في المنظمات الدولية والمنتديات العالمية المعنية بشؤون الدواء، وتتعاون مع نظيراتها من الهيئات الرقابية في الدول الأخرى لتبادل الخبرات والمعلومات​

. هذا الانفتاح والتنسيق الدولي يساهمان في رفع كفاءة المنظومة الدوائية المحلية وتبنّي أفضل الممارسات العالمية في مجالات التنظيم والرقابة. وبالمقارنة مع حقبة ما قبل إنشاء الهيئة، باتت عملية اتخاذ القرار أكثر سرعة وتناغمًا، نظرًا لوجود كيان واحد يجمع شتات المهام التي كانت موزعة سابقًا. وأصبحت الشركات العاملة في سوق الدواء تتعامل مع جهة واحدة واضحة الاختصاص، مما سهّل الإجراءات وخفض البيروقراطية، وبالتالي سرّع وتيرة وصول الدواء إلى من يحتاجه ضمن إطار آمن ومنضبط.

مشروعات وإنجازات بارزة منذ تأسيس الهيئة

منذ انطلاقها، حرصت هيئة الدواء المصرية على ترجمة صلاحياتها الواسعة إلى تحسينات ملموسة في قطاع الأدوية. جاءت جائحة كورونا (COVID-19) عام 2020 كأول اختبار حقيقي وجاد لقدرات الهيئة الناشئة. فعلى الرغم من عمرها القصير آنذاك، اضطلعت الهيئة بدور محوري في متابعة توافر الأدوية والمستحضرات الطبية الضرورية خلال الأزمة، وتنسيق الجهود مع شركات الأدوية المحلية والعالمية لضمان إمداد السوق بالمستلزمات العلاجية ومستلزمات الحماية الشخصية. كما أصدرت الهيئة موافقات استثنائية لاستخدام بعض المستحضرات بصورة عاجلة لمواجهة الجائحة، كلقاحات فيروس كورونا والأدوية التجريبية، وذلك بعد تقييم علمي دقيق وفحص المستندات المتعلقة بفاعليتها وأمانها. هذا التحرك السريع ساهم في حماية الصحة العامة في فترة حرجة، وأظهر أهمية وجود هيئة مستقلة تستطيع التعامل بمرونة وسرعة مع الطوارئ الصحية.

على صعيد تطوير البنية التنظيمية، أطلقت الهيئة في عام 2020 مشروعًا طموحًا لوضع الدستور الدوائي المصري (Pharmacopeia). وقد شُكلت لجنة علمية دائمة من خبراء وأكاديميين لإعداد مسودة أول دستور دوائي مصري حديث، بناءً على قرار رئيس الهيئة رقم 154 لسنة 2020​

. يهدف هذا المشروع إلى توطيد مرجعية علمية وطنية لمعايير جودة المستحضرات الصيدلية، بحيث تُصبح المواصفات القياسية المصرية للأدوية مرجعًا معتمداً يُحتذى به محليًا وإقليميًا. ومن شأن إصدار الدستور الدوائي المصري أن يدعم الصناعة الدوائية الوطنية ويرفع تنافسيتها عبر تحسين جودة الإنتاج وفق أحدث المعايير العالمية.

إلى جانب ذلك، واظبت هيئة الدواء المصرية على إصدار نشرات وتحذيرات دورية بشأن الأدوية المتداولة في السوق​

. فعند رصد أي خلل في جودة تشغيلات بعض الأدوية أو ظهور آثار جانبية خطيرة غير معروفة مسبقًا، تُبادر الهيئة فورًا بسحب تلك التشغيلات من الأسواق وتحذير مقدمي الرعاية الصحية والجمهور. وقد اتخذت الهيئة إجراءات حازمة ضد ظاهرة الأدوية المغشوشة عبر حملات تفتيش مفاجئة بالتعاون مع الأجهزة المعنية، وأطلقت منصات إلكترونية لتيسير إبلاغ المواطنين عن أي منتجات دوائية مشكوك في سلامتها. وفي إطار التحول الرقمي، طورت الهيئة بوابة إلكترونية لخدماتها تتيح لشركات الأدوية تقديم ملفات التسجيل والتراخيص إلكترونيًا، مما قلّص مدة الإجراءات وساهم في تعزيز الشفافية في التعاملات.

كما برزت الهيئة على الساحة الدولية من خلال المشاركة النشطة في المؤتمرات والمنتديات ذات الصلة بتنظيم الأدوية. وقد انضمت مصر عبر هيئة الدواء إلى مبادرات تعاون دولية وإقليمية تهدف إلى مكافحة الأدوية المغشوشة وتبادل معلومات اليقظة الدوائية. وعقدت الهيئة شراكات مع منظمات صحية عالمية كمنظمة الصحة العالمية وهيئات الدواء في دول رائدة، بهدف الاستفادة من الخبرات الدولية وتطوير قدرات كوادرها الفنية. هذه الإنجازات والمشروعات المتلاحقة عكست حرص هيئة الدواء على تحقيق نقلة نوعية في أداء المنظومة الدوائية المصرية، سواء عبر تحديث التشريعات، أو تبسيط الإجراءات، أو الارتقاء بمعايير الجودة والسلامة الدوائية.

وفي الختام، يمكن القول إن إنشاء هيئة الدواء المصرية مثّل محطة تاريخية في تطوير قطاع الرعاية الصحية والدوائية في مصر. فقد أتت هذه الهيئة تتويجًا لمسيرة طويلة بدأت بفكرة الرقابة على الدواء ضمن وزارة الصحة منذ ثلاثينات القرن الماضي، وتطورت عبر السنين باطراد حتى نضجت في هيئة مستقلة حديثة. ومع وجود هيئة الدواء المصرية، صار لدى العاملين في سوق الأدوية والرعاية الصحية إطار تنظيمي أكثر فعالية وتكاملاً، يتيح خدمات رقابية وتطويرية شاملة تواكب العصر وتحمي صحة المجتمع. وتظل رحلة الهيئة مستمرة نحو تعزيز أمن الدواء وفعاليته، بما يخدم مصر والمنطقة العربية ويجعلها نموذجًا يُحتذى به في حوكمة القطاع الدوائي وضمان جودته واستدامته.


المصادر

  1. القانون رقم 151 لسنة 2019 – قانون إنشاء الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية وهيئة الدواء المصرية (الجريدة الرسمية، أغسطس 2019).

  2. القانون رقم 127 لسنة 1955 – بشأن مزاولة مهنة الصيدلة وتنظيم تداول الأدوية في مصر.

  3. موقع اليوم السابع – مقال بعنوان “انفصال قطاع الصيدلة رسميًا عن وزارة الصحة” (27 فبراير 2020)​

  4. موقع Egypt Today الإخباري – مقال “All you need to know about objectives of establishing Egyptian Drug Authority” بقلم ولاء علي (23 يوليو 2019)​.

  5. موقع اليوم السابع – تقرير بعنوان “7 أهداف لهيئة الدواء المصرية طبقًا للقانون.. تعرف عليها” (4 يونيو 2024)​​.

  6. الموقع الرسمي هيئة الدواء المصرية – بيانات صحفية عن بدء صياغة الدستور الدوائي المصري (نوفمبر 2020) والتقارير الدورية الصادرة عن الهيئة​

  7. ويكيبيديا العربية – صفحة “هيئة الدواء المصرية” (اطلع عليها في 2025)​.

ريبسولوجي - Healthcare Business Media - منصة إعلامية لمؤسسات وأفراد الرعاية الصحية: نروي قصص الأعمال، نركز على رحلة الأشخاص والمنتجات، نكشف ما وراء الخبر، ونحلل تجارب السوق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock